إن الدين عند الله الإسلام - التحذير ضد التنصير والتبشير ( 8 )

ثامناً : إن قمة هذا التزلف نراه في دعوتهم إلى أن يكون هناك "مسلم ـ عيسوي" ، و أن يكون هناك "مسجد عيسوي" . إن دونالد ر. ريكاردز في موضوعه "تطوير وسائل جديدة لتساعد في تنصير المسلمين" في الصفحة 645 يقول : (نحن نقترح أن يطلق على المسلمين الذين يعتنقون النصرانية "مسلمون ـ عيسويون" ، و هذا له معنيان :
أولاً : أنهم استسلموا لعيسى .
ثانياً : إنهم مايزالون جزءاً من ثقافتهم و وطنهم) .
ثم يقول بعد ذلك في الصفحة 646 : (لماذا لا نطلق على المكان الذي يلتقي فيه المسلمون العيسويون "مسجد عيسوي" ، فربما قبل المسلمون في النهاية المسجد العيسوي كفرع طبيعي ضمن الثقافة الإسلامية؟) .
ثم تحدث المحاضر عن الطقوس الدينية في هذا المسجد العيسوي فيقول في الصفحة 647 : (إذن نقترح بأن تترك الأحذية عند الباب في المسجد العيسوي ، و ليس هناك خسارة في ذلك ، و أن تكون أوضاع متعددة للصلاة عامة ـ و الكتاب المقدس يسمح بالركوع و رفع الأيدي ـ و أن لا تكون هناك مقاعد ، و أن تستعمل حصائر للصلاة إذا رغب المصلون بذلك ، و لكن المصلين لن يولوا وجوههم نحو الشرق و لن يكون هنالك أي إشعار أو دعوة للجهاد على حيطان المسجد العيسوي ، و لو أن المسلمين العيسويين قد يقررون مستقبلاً كتابة شئ عن المسيح على تلك الحيطان) .
هذه هي إذن صورة المسجد العيسوي و صورة المسلم العيسوي ، أي المسلم النصراني كما يتخيلها بشير عبد المسيح ، و التي يدعو إليها ، و لكن ما الذي يقوله عن أيام الأسبوع ؟ إنه يبين رأيه في ذلك إذ يقول في الصفحة 648 : (نحن نقترح على ضوء ما يقوله العهد الجديد بخصوص مراعاة الأيام أن يتم توزيع تقويم على المسلمين العيسوين يوضح لهم أن يوم الجمعة هو اليوم الأول في الأسبوع بالنسبة إليهم) .
و ما الذي يقوله عن شهر رمضان ، شهر صيام المسلمين ؟ إنه يبين في الصفحة 648 وجهة نظره حول هذا الشهر الكريم من أجل تنصيره أيضاً بقوله : (يجب أن نجعل من رمضان شهر الصيام شهراً مليئاً بالعمل و النشاط و الحيوية ، بخلاف ما كان عليه الحال في الماضي من قضاء ليالي الشهر في ممارسات لا دينية) .
إنه يرسم و يهندس الأشياء و يتخيلها و كأن الناس أمامه مجرد أحجار على رقعة الشطرنج يَدَعُهم و يحولهم و يحركهم كما يريد ، و كل ذلك انطلاقاً من فكرة إذابة الفارق الثقافي الحياتي الديني بين المسلمين و النصارى حتى يصبح الشخص النصراني ، و المعتقَد النصراني ، و العبادة النصرانية ، قريبة إلى استيعاب المسلم ، و حتى تبدو له هذه الأشياء مرحلة انتقالية بين الإسلام من ناحية و النصرانية من ناحية ، فهي الجسر الذي يعبر عليه المسلم ، فهو مسلم ، ثم مسلم عيسوي ، ثم عيسوي ، و كلمة عيسوي هنا تعني نصراني ، و لكنها كلمة مقبولة للمسلم الذي يحب عيسى لكونه واحداً من الأنبياء الذين يقدرهم المسلمون و يجلونهم حسب المفهوم الإسلامي لا المفهوم الوثني المشرك النصراني .
تاسعاً : إن أفكار بشير عبد المسيح قد أثارت عديداً من التساؤلات و التعقيبات ، و قد جاء في الصفحة 652 – 653 من رده على تعقيباتهم قوله : (الحقيقة إن مصطلحات مسلم عيسوي و مسجد عيسوي ستكون بالتأكيد مهينة للمتنصرين الوطنيين في أنحاء العالم الإسلامي ، لكن بدلاً من أن نعلن عن يأسنا فأمامنا إمكانية لمناقشة هذه الأفكار الجديدة مع هؤلاء المتنصرين و بطريقة أخوية ، فبدلاً من افتراض عنادهم و تصلبهم في هذا المجال لدينا فرصة لأن نشاركهم التفاؤل في أفكار جيل جديد ، لماذا نستبق الأمور و نحكم بأنهم لن يتجاوبوا بالإيمان و الفرح كما يفعل كثير منا ؟) .
إن لديه أملاً ، بل ربما سيجد في هذا الأسلوب حقلاً تجريبياً جديداً ، لنجرب ، و لنرَ ، قد تصيب هذه الأفكار و قد تؤتي ثمارها ، هذا ما يراه بشير عبد المسيح الذي يحاول إقناع المؤتمرين به . و لكن إن الذي نراه بأن في هذا الأسلوب جملة من النقاط التي تستحق الوقوف عندها و تسجيلها :
  1. إن هذا الأسلوب يعبر تعبيراً صريحاً عن الإفلاس في الوسائل ، فإنهم بعد أن استنفدوا كل وسائلهم التنصيرية الترغيبية و الترهيبية على حد سواء ، و لم تنفع كلها في التحول العام للمسلمين إلى النصرانية قد اعتراهم اليأس و بدأوا يفتشون عن وسائل تعبر عن هذا الإفلاس الواضح .
  2. إن هذا الأسلوب ـ إذا قدر له أن يستخدم ـ قد يكون وسيلة لجذب النصارى إلى الإسلام بدلاً من جذب المسلمين إلى النصرانية ؛ لأن صاحب العقيدة الأقوى هو الذي يستطيع جذب الأضعف ، و ما الحروب الصليبية عنا ببعيدة ، فإن النصارى قد حققوا نصراً عسكرياً لكنهم و بنفس القدر قد حققوا هزيمة عقدية و حضارية و نفسية ؛ إذ إن بعض عادات و تقاليد المسلمين و مفاهيمهم و ألبستهم و شاراتهم و طرائق معاشهم قد انتقلت إلى النصارى ، فصاروا نصارى في ثوب إسلامي من العادات و الأشكال ، و قد حدث الأمر نفسه من التتار و المغول الذين انتصروا عسكرياً على المسلمين الضعفاء المفككين لكنهم هزموا أمام الحق الأقوى الذي وجدوه في الإسلام ، فقد أسلموا و تغيرت سلوكياتهم و هيئاتهم و شخصياتهم لتتوافق و تتشابه مع شخصية المسلمين ، و عادوا إلى بلادهم ليحكم أحفادهم بالإسلام قروناً مديدة .
  3. إن الانحراف يبدأ صغيراً ، لكنه بعد ذلك يكبر و يكبر حتى لا يستطيع امرؤ التحكم فيه أو السيطرة عليه ، إنهم يريدون اليوم أن ينحرفوا بالمفاهيم النصرانية تجاه الإسلام ، و لو بزاوية بسيطة بهدف جذب المسلمين إلى حظيرة النصرانية ، و غداً يقبلون بزيادة هذا التقارب ، و بعدها قد يصبح الأمر قبولاً للإسلام ذاته عندما يستشعرون حلاوة صيام رمضان و جمال تلاوة القرآن ، و فرحة التوجه إلى الله الواحد الأحد ، تلك الفكرة أو تلك الأفكار التي سينقلها لهم المسلمون من خلال هذا المسجد العيسوي أو الإسلام العيسوي الذي يدعون إليه .
  4. إن المسلم لن يقبل على نفسه هذا التلفيق المضحك ، فإن أراد الإسلام فليأخذه من مسجد المسلمين ، أما هذه (الاستشكالات) و (التعقيدات) بين الإسلام ـ و الإسلام العيسوي ـ و النصرانية ، و بين الظاهر الإسلامي و الباطن النصراني ، بين معرفته بدينه كما أخذه عن آبائه و بين هذه التناقضات ، كل ذلك سيجعله أمام خيارين : إما أن يبقى في دينه ، و إما أن يتخلى عن فكرة الدين إطلاقاً ، أما هذه الوضعية الدينية المشوشة فلا يمكنه هضمها و لا استيعابها .
  5. إن الرفض الذي يبديه المسلمون تجاه النصرانية ليس في هذه الأشكال ، أي لن تكون هذه الأشكال وسيلة لجذبه إلى النصرانية ، و ذلك لأن القضية عميقة الجذور في نفسه ، و ذلك من خلال اتجاهين :
    1. المعتقد الإسلامي الواضح حول الألوهية الواحدة و حول الدين الحنيف الذي عرفه أو ورثه عن آبائه و أهله و مجتمعه .
    2. الكراهية للكنيسة بسبب ماضيها المعادي للإسلام ، و بسبب مواقفها التاريخية من المسلمين ، و بسبب الأفكار التي تستعصي على الفهم كالتثليث ، ثلاثة في واحد ، و واحد في ثلاثة ، تلك الأقانيم التي لم يستطع أن يهضمها النصراني ذاته إلى اليوم ، فما بالك بالمسلم الموحد .
  6. إذا افترضنا بأن ثمة نجاحاً يمكن أن يتحقق من خلال هذا التلفيق الساذج فإن هذا النجاح لن يتحقق إلا لدى الأشخاص المسلمين الهامشيين فقط ، و هؤلاء مرفوضون في الأصل ، ليسوا مرفوضين من قبل المسلمين ، بل من قبل المنصرين ، و ذلك لأسباب أخرى كثيرة بيناها في موضع آخر من هذا البحث .
عاشراً : إن هذه الإذابة للفوارق الثقافية و التزلف للمسلمين و قبول مرحلة وسط بين الإسلام و النصرانية ، ليست فكرة واحد من المؤتمرين هو بشير عبد المسيح الذي اقتبسنا عدداً من آرائه في الفقرات الآنفة ، بل إن بول هابيرت يدلي بنفس الآراء كذلك ، ففي الصفحة 81 يقول عن المسلم المتنصر في باكستان ما يلي : (هل يمكنه أن يستخدم لغة الأوردو للتعبير عن إيمانه ؟ أو أن يستعمل الطبول و أساليب الغناء في ترانيمه النصرانية ؟ هل يستطيع الاجتماع مع أقرانه النصارى في الجامع ؟ هل يجب عليه أن يطلق زوجته الثانية و الثالثة و يحولهن إلى عاهرات ؟) .
ثم يقول في الصفحة 82 : (ربما يستطيع الباكستاني المتنصرحديثاً أن يستخدم عدداً من صيغ ثقافية دون أن يتزعزع إيمانه ، فهو يستطيع النوم في سريره القديم ، و أن يأكل الأطعمة المعتادة ، و أن يصلي و هو جالس على الأرض) .
إن النصرانية من خلال إحساسها بضعفها عن إمكانية الانتصار العقلي الخاضع للبراهين و المنطق أخذت تبحث عن وسائل بديلة ذات جذب خادع ، و هو جذب مؤقت بالتأكيد ، و جذب ضعيف بالتأكيد ؛ لأن الذي ينجذب بهذه الطريقة سيصحو في يوم من الأيام إذا لم يجد ما يشبع روحه و فكره ، هذا من ناحية . و من ناحية أخرى فإن النصرانية لتورطها في هذا الاتجاه المائع قد خسرت الكثير ؛ لأنها قبلت أن تحتوي النصراني الغربي على الرغم من كل آفاته و انحرافاته و سقوطه ، و قبلت منه فقط أن يحضر في يوم الأحد للقداس الكنسي ، أن يحافظ و لو على رباط واه مع الكنيسة مهما كان منحرفاً عن المبادئ النصرانية الأصلية ، لكن ذلك أفقدها الكثير ، و جعل نظرة النصراني إليها خالية من الاحترام و التوقير ، و أصبح الزاني و شارب الخمر و اللص و المنحرف سلوكياً و الشاذ جنسياً أصبح هؤلاء مقبولين في الكنيسة ، مادام لديهم استعداد لأن يحضروا إلى الكنيسة في بعض الأيام من السنة ، و ماداموا يحتفلون بعيد الميلاد ، و مادام لديهم استعداد لأن يجثو كل واحد منهم على ركبتيه أمام القسيس معترفاً بذنوبه العجيبة ليغتفرها له و يريح ضميره منها ، و مادام يدفع الضرائب بشكل منتظم للكنيسة . إن كل واحد من هؤلاء سيحس من داخله بسخرية عجيبة من هذا الدين الذي لا يتجاوز القشرة الظاهرية ، لقد أصبحت الكنيسة أضعف من أن تستطيع احتواء مشاعر النصراني الذي أخذ يبحث عن إشباع تطلعاته الروحية في أي معتقد آخر .
إن النصرانية عندما ترضى بأنصاف الحلول هذه لن يكون ذلك سبباً في انتصارها ، ربما تنتصر مؤقتاً لأسباب كثيرة مادية و نفسية ، و ربما انتصرت مؤقتاً في بعض ديار المسلمين النائية كجنوب شرقي آسيا و إندونيسيا و بعض مناطق إفريقيا لما فيه المسلمون من ضعف و تفكك حالي ، و لكنه يبقى انتصاراً ظاهرياً مؤقتاً ، و ذلك لافتقاد النصرانية لأي حق عقلي منطقي مقبول أو جذب روحي صادق مشبع .
حادي عشر : إن هذا الإحساس بالتزلف لكسب المسلمين قد شعر به بعض المؤتمرين مما جعل فريزر في رده على بعض التعقيبات الواردة على موضوعه "تطبيق مقياس إينكل في عملية تنصير المسلمين" في الصفحة 258 – 259 يقول : (لم يكن البعض مرتاحاً لأنهم شعروا بأني أؤيد جعل العقيدة النصرانية أكثر جاذبية ، إني أقر بهذا ، فأنا لا أعتقد أن الناس يمكن أن يتجاوبوا مع الدعوة إذا بدا المسيح لهم أجنبياً عنهم أو لا علاقة له باحتياجاتهم الحقيقية ، أو أنه يناشد الناس بأن يخونوا أقاربهم أو ينبذوا ثقافتهم ، إن المسيح ليس كذلك ، إننا نحن الذين جعلناه يبدو هكذا بواسطة العديد من أساليبنا) .
نعم ، إنهم أساءوا إلى المسيح في كثير من تصرفاتهم مع المسلمين عبر القرون ، و لكن المسيح عيسى عليه السلام ليس أجنبياً عن المسلمين كما يتصورون ، و إن المسيح عليه السلام لا يحتاج إلى شهادة تزكية منهم ، و ليس في حاجة لأن يقدموه إلى المسلمين في أسلوب أكثر جاذبية حتى يصبح مقبولاً .
إن المسيح لدى المسلمين نبي ، بشر ، محبوب ، مذكور في القرآن بكل ما يليق به من التقدير ، هو و أمه الصديقة ، إن المسيح لدى المسلمين قريب إلى قلوبهم ، قريب إليهم على طريقتهم الصافية الناصعة ، على حسب المفهوم البرئ من الشرك و التأليه و الوثنية ، الخالص من الخرافات و التعقيد ، يقول الله تعالى : {وَ إذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ؟ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، إن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لا أعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أنتَ عَلَّامُ الغُيوبِ} [المائدة : 116] .
إنهم يفترضون مشكلة ما ، و يبذلون جهوداً عظيمة لإزالة هذه المشكلة ، علماً بأن المشكلة من أساسها ليس لها وجود على الإطلاق إلا في عقولهم و ذواتهم و تصوراتهم المنحرفة .
و إننا نطلب إليهم أن يوفروا هذه الجهود المضنية في هذا السبيل و ندعوهم لأن يصححوا نظرتهم إلى المسيح ، عندها سيلتقون بالمسلمين تلقائياً .